-->

فضل العفو والتسامح


http://technosat2016.blogspot.com.eg


يقول الله تعالى في كتابه الكريم : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1 ).
يأمرنا الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بالصفح والعفو والإحسان عمَّن أساء إلينا، ابتغاء رضوانه سبحانه وتعالى، وطمعاً فيما أعده سبحانه وتعالى للعافين من حسن الجزاء، ومن المعلوم أن العفو من أبرز أخلاق الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن أشهر طباعه، ومن أَجَلِّ صفاته وسجاياه .
 وقد جاء في تفسير الآيات : ({وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي بادروا إلى ما يوجب المغفرة بطاعة الله وامتثال أوامره، {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي وإلى جنة واسعة عرضها كعرض السماء والأرض، كما قال في سورة " الحديد": { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ} والغرض بيان سعتها، فإذا كان هذا عرضها فما ظنك بطولها؟ { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي هيئت للمتقين لله، { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} أي يبذلون أموالهم في اليسر والعسر، وفي الشدة والرخاء، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي يمسكون غيظهم مع قدرتهم على الانتقام، { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي يعفون عمَّن أساء إليهم أو ظلمهم، { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يحب المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة وغيرها )(2).   
وفي الحديث : ( ثلاث أقسم عليهن، ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله )، وروى الحاكم في مستدركه ، عن أُبيّ بن كعب ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " ومن سَرَّه أن يُشَرّف له البنيان وتُرفع له الدرجات ، فليعفُ عمَّن ظلمه ، وَيُعْطِ من حرمه ، ويصل من قطعه" ، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول : أين العافون عن الناس ، هلموا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة " (3).
إن العفو عن المسيء من أفضل الصفات التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ولو  علمنا ما في العفو من حكمة وسلامة وأجر، لأسرعنا بالعفو والصفح عن زلات المسيئين .

http://technosat2016.blogspot.com.eg



أثر الصفح والعفو
ذكر الإمام ابن حجر في  الإصابة أن فضالة بن عُمَيْر الليثي ذهب قاصداً قتل النبي – صلى الله عليه وسلم – أثناء طوافه بالبيت ، فلما دنا منه، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : "أفضالة؟!" قال : نعم فضالة يا رسول الله ، قال : ماذا كنت تحدِّث به نفسك ؟ قال : لا شيء، كنت أذكر الله !، فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ، فما كان من فضالة إلا أن قال : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خَلْقِ الله أحبّ إليَّ منه ، وأسلم فضالة بهذا الصفح الكريم ، وزالت من قلبه العداوة ، وحلت محلَّها محبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
 هذا الموقف يبين مدى سماحة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -  وعفوه عن الآخرين، وأنه كان يقابل الإساءة بالإحسان .
تأمل أخي القارئ هذا الموقف النبوي الكريم ، كيف قابل النبي – صلى الله عليه وسلم – رغبة القتل والعدوان من فضالة، بالابتسامة الصادقة والمعاملة الكريمة والدعاء له بالهداية والمغفرة  ، واليد الحانية التي كانت بلسماً سكن به قلب فضالة، فشرح الله صدره للإيمان، وتحوَّل الموقف من العداوة إلى المحبة ، كما في قوله تعالى:  {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}( 4 ).



http://technosat2016.blogspot.com.eg



اذهبـوا فأنتم الطلقاء
ذكرت كتب السيرة أن رسولنا  – صلى الله عليه وسلم –  عاد إلى مكة بعد ثماني سنوات فاتحاً بعد أن أُخرج منها،  فقد عاد إليها- صلى الله عليه وسلم -  على رأس جيش بلغ  أكثر من عشرة آلاف من المسلمين، حيث دخل رسول الله– صلى الله عليه وسلم – مكة دخول الشاكرين لله -عزَّ وجلَّ-، دخلها وهو راكب على ناقته تواضعاً لله وشكراً، وكادت جبهته – صلى الله عليه وسلم – أن تمس عنق ناقته، وكان يردد قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}( 5 ).
وسيطر الرعب على أهل مكة خوفاً من أن ينتقم منهم – صلى الله عليه وسلم – نتيجة أفعالهم معه ومع أصحابه- رضي الله عنهم أجمعين -، فقد طردوهم وعذبوهم وصادروا أموالهم وممتلكاتهم، فقال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم - : (يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، فما كان منه – صلى الله عليه وسلم – إلا أن قال لهم  قولته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، أقول لكم ما قاله أخي يوسف – عليه الصلاة والسلام – لإخوته {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(6) ،  فلم يقتل – صلى الله عليه وسلم -  أحداً، ولم يصادر أرضاً، ولم يمنع ماء، ولم يقطع طريقاً، ولم ينفِ أحداً، ولم يعتقل،  بل كان – صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين كما وصفه ربه سبحانه وتعالى.
لقد أثر هذا الموقف العظيم وهذا التسامح الكبير في نفوس أهل مكة ، حيث أقبلوا معلنين إسلامهم وإيمانهم برسالة الإسلام، ودخلوا في هذا الدين الجديد الذي فيه السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة .
ثم أمــر له بعطـاء
 أخرج الإمام البخاري في صحيحه قال : (بينما كان أنس بن مالك – رضي الله عنه – يمشي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، إذا بأعرابي يجذب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ردائه جذبة شديدة ، حتى أَثَّرَ الرداء في رقبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من شدة جذبته ، ثم قال الأعرابي بغلظة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وضحك ، ثم أمر له بعطاء ) ( 7 ) .
انظر أخي القارئ إلى حلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسعة صدره، وكيف قابل –عليه الصلاة والسلام – هذا السلوك المشين وهذا السفه من ذلك الأعرابي، لقد قابله – صلى الله عليه وسلم - بالحلم، فقد كظم غيظه – صلى الله عليه وسلم – وسامحه وعفا عنه، وهذا هو خلقه – عليه الصلاة والسلام – فقد جاء في الحديث  عن ابن عمر – رضي الله عنهما –، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ما من جرعةٍ أعظمُ أجراً عند الله، من جرعة غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله تعالى"(8).
إن الأخلاق الإسلامية المتمثلة في العفو والسماحة الإنسانية تجاه البشرية كلها  شكلت سبباً رئيساً بفضل الله لدخول الناس في دين الله أفواجاً ، كما أنه لا يمكن لمنصف من البشر  مهما كان أن ينكر هذه الصفات الكريمة ، فهي تحث على تآلف الأجناس، وإشاعة التراحم والمودة بين الناس، والتأدب بالآداب الإسلامية، ونبذ الحقد والحسد والتباغض، ليتحقق العفو والتسامح و العدل والإنصاف بين بني البشر.
هذا هو المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، مجتمع حب وود، ومروءة وخير ، مجتمع متماسك البنيان ، متوحد الصفوف والأهداف ، كما في قوله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (9) .
ودعونا نتساءل: هل نخر مجتمعنا إلا البعد عن خلق العفو والتسامح؟ فلو شغلتنا تقوى الله،  لكنا أهدى سبيلا وأقوم قيلا، فالواجب علينا جميعاً أن نبتعد عن الحقد والغل والحسد، وأن نتحلى بالأخلاق الفاضلة وفي مقدمتها العفو والتسامح والمحبة ، فعلى القريب أن يتسامح مع أقربائه، والجار أن يعفو عن جاره، والصديق أن يحلم على صديقه،وأن نردد  جميعاً قول الله سبحانه تعالى في كل وقت: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(10).








قال رسول الله صلّ الله عليه وسلم " تفتح أبواب الجنة يوم الأثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا " رواه مسلم







بعث الله محمداً صلّ الله عليه وسلم بهذا الدين القويم الذي أكمله، وهذه الشريعة السمحة التي أتمها ورضيها لعباده المؤمنين، وجعلهم أمة وسطاً، فكانت الوسطية لهذه الأمة خصيصة من بين سائر الأمم ميزها الله تعالى بها 
فقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }(143) سورة البقرة، 
فهي أمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم، 
ولقد كان من مقتضيات هذه الوسطية التي رضيها الله تعالى لهذه الأمة اتصافها بكل صفات الخير والنبل والعطاء للإنسانية جمعاء، 
وكان من أبرز تلك الصفات (العدل، والتسامح، والمحبة، والإخاء، والرحمة، والإنصاف).. 
لقد جاء الإسلام بالحب والتسامح، والصفح، وحسن التعايش مع كافة البشر، ووطد في نفوس أبنائه عدداً من المفاهيم والأسس من أجل ترسيخ هذا الخلق العظيم ليكون معها وحدة متينة من الأخلاق الراقية التي تسهم في وحدة الأمة، ورفعتها والعيش بأمن وسلام ومحبة وتآلف.




ومن تلك المفاهيم: العفو، والتسامح، والصفح عن المسيء، وعدم الظلم، والصبر على الأذى، واحتساب الأجر من الله تعالى.. حيث جاءت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية لتأكيد هذه المفاهيم، وإقامة أركان المجتمع على الفضل، وحسن الخلق ومنها:




قال تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(199) سورة الأعراف




قال تعالى {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(85) سورة الحجر




قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22)سورة النور




قال تعالى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران




قال تعالى {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }(43)سورة الشورى.




ومن السنة:




1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى. رواه مسلم.




2- وعن أنس رضي الله عنه قال (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء). متفق عليه.




3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق  عليه.




4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه.




وغيره من الآيات والأحاديث الدالة على فضل العفو والصفح عن الناس وأن يصبر على الأذى ولاسيما إذا أوذي في الله فإنه يصبر ويحتسب وينتظر الفرج.




ورسولنا صلى الله عليه وسلم ألّف حول دعوته القلوب، وجعل أصحابه يفدونها بأرواحهم وبأعز ما يملكون بخُلقه الكريم، وحلمه، وعفوه، وكثيراً ما كان يستغضب غير أنه لم يجاوز حدود التكرم والإغضاء، ولم ينتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.




فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخلها نهاراً بعد أن خرج منها ليلاً، وحطم الأصنام بيده، ووقف أهل مكة يرقبون أمامه العقاب الذي سينزله بهم رسول الله جزاء ما قدموه له من إيذاء لا يحتمله إلا أهل العزمات القوية، إلا أنه قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء. فاسترد أهل مكة أنفاسهم وبدأت البيوت تفتح على مصاريعها لتبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، الله أكبر، ما أجمل العفو عند المقدرة.. لقد برز حلم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الذي سار عليه الأنبياء من قبله.




لقد جاء الإسلام ليكف نزوات الإيذاء والظلم والتسلط والإساءة إلى الغير ويقيم أركان المجتمع على الفضل، وحُسن التخلق والصفات النبيلة التي منها الصفح، والعفو عن الإساءة والأذى، والحلم وترك الغضب والانتصار للنفس.. 
والإنسان منا في حياته يلاقي كثيرا مما يؤلمه ويسمع كثيرا مما يؤذيه، ولو ترك كل واحد نفسه وشأنها لترد الإساءة بمثلها لعشنا في صراع دائم مع الناس وما استقام نظام المجتمع، وما صلحت العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المسلمين. 
فالإنسان في بيته ومع أسرته قد يرى ما يغضبه، ومطلوب منه شرعا أن يكون واسع الصدر يسارع إلى الحلم قبل أن يسارع إلى الانتقام، وبذلك تظل أسرته متحابة متماسكة. 
ومَنْ أخطأ اليوم فقد يصلح خطأه في الغد ويندم على ما قدم من إساءة، والإنسان في عمله في الموقع الذي هيئ له، سواء أكان موظفا في وظيفته أم صانعا في مصنعه أم تاجرا في متجره يخالط غيره من الناس ويتعامل مع كثير من أبناء المجتمع، وقد يُستغضب ويرى ما يسوؤه، فعليه أن يضع بدل الإساءة إحسانا ومكان الغضب عفوا وحلما،
وأن يتذكر قوله تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(34) سورة فصلت. 
هذا هو المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، مجتمع ود، ومروءة، وخير، وفضل، وإحسان.. مجتمع متماسك البنيان متوحد الصفوف، والأهداف، فقلة الحلم وكثرة الغضب آفتان اثنتان، إذا استشرتا في مجتمع ما قوضتا بنيانه، وهدمتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوة ساحقة، وقطعت أواصر المحبة والألفة التي بين أفراده، وفي هذا دليل على أثر العفو والصفح عن الإساءة على المسلم والمجتمع


منقول من المحور الشرعي








ماذا تحتسبين في العفو عن الناس ؟







قال الشافعي رحمه الله :
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم *** إن الجواب لباب الشر مفتاح 
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب *** نعم وفيه لصون العرض إصلاح 
إن الأسود لتخشى وهي صامته *** والكلب يحثى ويرمى وهو نباح 
في رحلة الحياة ربما تعرضت  لإساءات متكررة من بعضهم .. رميت بسهم الكلمة .. أحرقت بشرارة تلك النظرة ... 
أوذيت في أهلك .. في عرضك ... بل في دينك ! فبعض الناس مبتلي بتصنيف عقائد الناس حسب الأهواء وبأكبر قدر من الجهل المركب !!. .. 
ممن أتاك الأذى ؟ أمن اليهودية ؟ أم من نصرانية ؟ وا حسرتاه ... إنه من (........) !
ويكون الجرح عميقاً بعمق البحار إذا كانت تلك الرمية ممن تتوسم فيه الخير ! إن جرحك غائر وينزف بغزارة ... فلا بد أن تفعل شيئاً لتوقف تلك الدماء ... لتبدئ من جديد ... أنظر من حولك لتبدئ... قد تفاجئ  بجيوش من البشر تشجعك على الظلم والبطش ورد الصاع صاعين ، ستشعر عندها بالقوة والتمكن فالحق معك ... ولكنك ... تتذكر قدرة الله عليك ... فيعظم العفو عندك رجاء عظم الثوب ... فتردد : " إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها " وترفع يديك بالدعاء للطيف الخبير ... للسميع القريب ... أن يفرج همك ، وأن يعفو عمن ظلمك ، وعمن تخلى عنك وهو يملك نصرتك – سامحهم الله – وتشهد الله على عفوك عن الجميع ابتغاء وجهه الكريم ... 
يا لطيف الخصال ... 
أنت لا تعيش في الدنيا وحدك ، بل هناك أشخاص كثيرون حولك تشكل معهم مجتمعك الذي تعيش فيه ، ولا شك أن احتكاكك بالناس سيتولد منه بعض التصادمات ، في الآراء ... في الأخلاق ... في الطباع والعادات .... أو نتيجة سوء فهم منك أو من الطرف الآخر ... أو ربما توضع رغما عنك في موقف تكرهه ! وهذه كلها أمور عادية ... أكرر عادية ! تفرضها علينا طبيعة التجمع البشري فأنت تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق} صحيح البخاري . 
فلا بد أن توطن نفسك على مواجهة مثل هذه المواقف وتحملها .... نعم تحملها ، وكيف نفسك على التحكم والسيطرة على انفعالاتك حسب ما يمليه عليك دينك ، ثم توج ذلك كله بالعفو .... العفو ... العفو .... ستفعل ذلك – يا طيب – لأن بروق الإيمان تسطع في قلبك بقوة ... 
تأكد أنك لن تقدر على العفو الحقيقي إلا إذا احتسبت : 
1- عمرك كله تدعي الله أن يغفر لك .. لقد أتتك المغفرة فلا تردها !... قال الله تعالى:{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فاصفح أخي رجاء أن يغفر لك الغفور الرحيم ... 
2- افعل ذلك لوجه الله ... واقهر أول أعدائك الشيطان ... فإن عفوك عمن أساء إليك يؤلمه أشد  الإيلام لما يترتب على فعلك هذا من الأجر العظيم جداً ... جداً . قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } .
يا إلهي ! ... هل تدرك معنى { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}؟ ... 
إن أجرك لن يأتيك من وزير ... ولا من أمير ... ولا حتى من ملك مطاع !
بل سيأتيك من ملك الملوك سبحانه ... فماذا تريد أفضل من ذلك ؟! وقد تكفل الله بأجرك وضمنه لك !... 
3- العفو هو طريقك إلى .. "الحظ العظيم " ... 
قال الله تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . " أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعهاً به الحسنات ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر ، والإغضاء عن  الهفوات ، والاحتمال للمكروهات . 
وقال مجاهد وعطاء : بالتي هي أحسن : يعني بالسلام إذا لقي من يعاديه ، وقيل بالمصافحة عند التلاقي { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } هذه هي الفائدة  الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن ، والمعنى : انك إذا فعلت ذلك صار العدو كالصديق .{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} قال الزجاج : ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة ، وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } في الثواب والخير . وقال قتادة : الحظ العظيم الجنة " . ينظر فتح القدير
4- احتسب ثواب الإقتداء بالله سبحانه ، " والعفو صفة من صفات الله وهو  الذي يتجاوز عن المعاصي ، وحظ العبد من ذلك لا يخفى وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل  يحسن إليه كما يرى الله محسنا في الدنيا إلى العصاة غير معاجل لهم بالعقوبة " . قال الله تعالى : { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } . { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا } عن عباده { قَدِيرًا} على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنه يعفو مع القدرة " . 
5- أجر الإقتداء بالنبي صلى الله  عليه وسلم ، والأنبياء جميعاً في عفوهم عمن ظلموهم وأساءوا إليهم مع قدرتهم عليهم .. فهؤلاء خيرة البشر يتركون العقوبة لوجه الله ! ... فمن نحن حتى نتعالى عن العفو  ونعتبره ذلة ومهانة في حقنا ؟! .. طبعا هذا إذا كان العفو في مكانه المناسب . 
6- احتسب بعفوك عن المسلمين أن تكون ممن يدرءون بالحسنة السيئة لتنال جنات عدن ، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {22} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ {23} سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} " 
{ أُوْلَئِكَ } إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة . 
{ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } والمراد بالدار الدنيا ، وعقباها الجنة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } العدن أصله الإقامة . { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } يشمل الآباء والأمهات { وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي ويدخلها أزواجهم وذرياتهم ،  وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك ، ولا  ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ } أي من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها . 
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أي قائلين سلام عليكم أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة { بِمَا صَبَرْتُمْ } أي بسبب صبركم { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما  أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق ". 
إيه يا عظيم الحظ ... 
عندما عفوت عن الآخرين قمت بعبادات كثيرة ... وصلت ما أمر الله به أن يوصل إن كان من عفوت عنه ذا رحم ... عفوك علامة على خشيتك لله وهذه عبادة عظيمة تدل على عبادة الخوف من الله ... 
كذلك الصبر على الإساءة ... والصبر على العفو نفسه يرفعك المنازل العالية ... وبهذا أصبحت ممن يدرءون بالحسنة السيئة وهذه عبادة جليلة فأبشري وأملي ... 
7- إن عفوك عمن ظلمك إحسان منك إلى مسلم ترجو به إحسان الله إليك ... قال الله تعالى : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } ...  " ومعاملة الله له من جنس عمله , فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه " . 
8- ألا يفوتك فضل الله يوم الاثنين والخميس ... 
قال صلى الله عليه وسلم : ( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين , ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء , فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا . أنظروا هذين حتى يصطلحا ) رواه مسلم .
وأسألك بالله ما الذي يستحق في هذه الدنيا أن تحرم نفسك من مغفرة الله لأجله ؟ !... 
9- أن يحبك الله وهذه من أغلى الأماني ...
قال الله تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ومن أحبه الله أحبته الملائكة وأحبه الناس ...
10- احتسب أن يزيدك الله عزاً ورفعة , إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما معا ... 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما زاد الله عبدا بعفوا إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " رواه مسلم . وهل هناك أفضل ممن  تواضع لله فعفى عمن ظلمه . إن العفو ليشمل التواضع كل التواضع .. فهنيئا لك العز والرفعة ..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " كل الناس مني في حل "
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : " إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي ، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها "
الآن ... فكر وبهدوء قبل أن تقرر عدم العفو !



TAG

بقلم :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق


 


 


 


 

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *